إلى الباحثين عن المرأة النموذج والمثل الأعلى
والقدوة الحسنة أم المؤمنين عائشة
النسب والمولد والوفاة
هي أم المؤمنين عائشة[1] بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن عثمان القرشي، من بني تيم بن مرة، وَأمها أم رُوْمَان[2] بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمَرِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك الكِنَانِيّةَ, ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس[3], أي قبل الهجرة بحوالي ثماني سنوات[4], وتلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة ابن كعب[5].
وُلدت السيدة عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها في بيت عامر بالإيمان، ممتلئ بنور القرآن، فأبوها الصديق أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وثانى اثنين إذ هما في الغار، وأول من آمن من الرجال، وأول خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأمها السيدة أم رومان[6] من أشرف بيوت قريش وأعرقها في المكانة, وكنّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير[7], وكانت امرأة بيضاء جميلة, ومن ثم كانت تُلقّب بالحُمَيْراء[8].
لقد تأثّرَ بناءُ شخصيتها فكراً وسلوكاً ومشاعرَ بالبيئة التي نشأت فيها, تقول رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ, وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ, فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ"[9], وانظر إلى هذه الذكريات المحفورة في عقلها منذ الطفولة, وكيف شكلتْ تلك الشخصية الفذَّة.
وفاتها
وتُوفيت رضي الله عنها بعده بالمدينة سنة سبع وخمسين أو ثمان وخمسين للهجرة النبوية، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة المنورة في أيام معاوية ابن أبي سفيان[10], وهى في سن الخامسة أو السادسة والستين من عمرها، وَأَنَّهَا مَاتَتْ بَعْدَ الْوِتْرِ, وأَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ[11] مِنْ لَيْلَتِهَا؛ فَاجْتَمَعَ الْأَنْصَارُ وَحَضَرُوْا فَلَمْ نَرَ لَيْلَة أَكْثَرَ نَاسًا مِنْهَا نَزَلَ أَهْل الْعَوَالِيْ؛ فَدُفِنَتْ بِالْبَقِيْعِ[12]. وسارت خلفها الجموع باكية عليها في ليلة مظلمة حزينة، فرضي اللَّه عنها وأرضاها[13].
وَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَيْهَا رضي الله عنها, وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ. قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ؛ فَقِيلَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَمِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَتْ: ائْذَنُوا لَهُ؛ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ إِنْ اتَّقَيْتُ. قَالَ: فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ, وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنْ السَّمَاءِ, وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ خِلَافَهُ؛ فَقَالَتْ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيَّ, وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا[14], وفي رواية أحمد قَالَتْ: "أَخَافُ أَنْ يُزَكِّيَنِي"[15], وفي هذا دليل على تَوَاضُع عَائِشَة وَفَضْلهَا وَتَشْدِيدهَا فِي أَمْر دِينهَا[16].
وفي رواية أُخرى أنّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقْدَمِينَ عَلَى فَرَطِ صِدْقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ"[17], وفي هذه الرواية قطع ابن عباس لعائشة بدخول الجنّة, ولا يُقال هذا إلاّ بتوقيف؛ فيكون لهذه الرواية حكم المرفوع, وهذه فضيلة عظيمة لعائشة[18].
[1] وَعَائِشَةُ مَأْخُوْذَةٌ مِنَ الْعَيْشِ, وَيُقَالَ أَيْضًا: عَيْشَةٌ"لُغَةً, وَصَغَّرَ اسْمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا عُوَيْشُ, وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ: إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا: "يَا عَائِشَ. هَذَا جِبْرِيْل يُقْرِئُكِ السَّلَامَ", [صحيح البخاري, كتاب المناقب, بَاب فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, حديث رقم (3484)], وهو عَلَى التَّرْخِيْمِ, وانظر: الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/38).
[2] هي زينب بنت عامر, وهي أم عبد الرحمن أخي عائشة, ماتت سنة ست هـ, وتُلفظ بفتح الراء وضمها, وانظر: عمدة القاري (1/100), وَالْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/38).
[3] وعائشة ممن ولد في الإسلام، وهي أصغر من فاطمة بثماني سنين, وانظر: سير أعلام النبلاء (2/139), وأسد الغابة (3/383).
[4] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/108), والإصابة في تمييز الصحابة (8/16), والخلاصة (1/68), وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/51), وَالْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/40), وسير أعلام النبلاء (2/135).
[5] انظر: المجموع شرح المهذب (1/89).
[6] تزوجها أبو بكر الصدِّيق بعد حليفه عبد الله بن سَخْبَرَة، وأنجبت منه عبد الرحمن بن أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر, وانظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (3/300), وموسوعة توحيد رب العبيد (14/482).
[7] انظر: عمدة القاري (1/100), وشرح الكوكب المنير (2/151), والاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/109), وجَاءَ فِي مُعْجَمِ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ: أَنَّهَا جَاءَتْ بِسِقْطٍ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ, وَ فِي إِسْنَادهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى دَاوُدَ بْنِ الْمُحَبَّرِ صَاحِبِ كِتَابِ "الْعَقْلِ", وهو متروك عِنْدَ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِيّ، وقَالَ الذَّهَبِيُّ: واهٍ لاشيء, وانظر: الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصحابة (1/37), والإصابة في تمييز الصحابة (8/18), وطرح التثريب (1/337).
[8] والحميراء، في خطاب أهل الحجاز: هي البيضاء بشقرة، وهذا نادر فيهم, وانظر: سير أعلام النبلاء (2/140, 168), ووردَ هذا اللقب َفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا "دَخَلَ الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ, فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا حُمَيْرَاءُ أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ؟ فَقُلْت: نَعَمْ"[سنن النسائي الكبرى, كتاب عشرة النساء, باب إباحة الرجل لزوجته النظر إلى اللعب, حديث رقم (8951)], وقال ابن حجر: "إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ, وَلَمْ أَرَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ ذِكْرَ الْحُمَيْرَاءِ إِلَّا فِي هَذَا", والمعنى أنّ معظم الأحاديث التي ذكرت هذا اللفظ ضعيفة, وانظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (3/371).
[9] صحيح البخاري, كِتَاب الصَّلَاةِ, بَاب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ, حديث رقم (456).
[10] انظر: سبل السلام (1/37), وعمدة القاري (1/100), وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/51), وشرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد (1/51), وطرح التثريب (1/339), والإصابة في تمييز الصحابة (8/20).
[11] روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ, وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ, لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا" [صحيح البخاري, كِتَاب الْجَنَائِزِ, بَاب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, حديث رقم (1304)], "أَيْ لَا يُثْنَى عَلَيَّ بِسَبَبِهِ وَيُجْعَل لِي بِذَلِكَ مَزِيَّة وَفَضْل, وَأَنَا فِي نَفْس الْأَمْر يَحْتَمِل أَنْ لَا أَكُون كَذَلِكَ, وَهَذَا مِنْهَا عَلَى سَبِيل التَّوَاضُع وَهَضْم النَّفْس بِخِلَافِ قَوْلهَا لِعُمَرَ كُنْت أُرِيدهُ لِنَفْسِي فَكَأَنَّ اِجْتِهَادهَا فِي ذَلِكَ تَغَيَّرَ, أَوْ لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ كَانَ قَبْل أَنْ يَقَع لَهَا مَا وَقَعَ فِي قِصَّة الْجَمَل, فَاسْتَحْيَتْ بَعْد ذَلِكَ أَنْ تُدْفَن هُنَاكَ, وَقَدْ قَالَ عَنْهَا عَمَّار بْن يَاسِر وَهُوَ أَحَد مَنْ حَارَبَهَا يَوْمئِذٍ: إِنَّهَا زَوْجَة نَبِيّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة", وانظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (4/476).
[12] ونزل في قبرها خمسة: عبد الله وعروة ابنا الزبير, والقاسم بن محمد, وعبد الله ابن محمد بن أبي بكر, وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر, وانظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/109), وأسد الغابة (3/385).
[13] انظر: الخلاصة (1/68), وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/52), والْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/40).
[14] صحيح البخاري, كتاب التفسير, بَاب "وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ", حديث رقم (4384).
[15] مسند الإمام أحمد بن حنبل (3/389), حديث رقم (1905), وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
[16] انظر: فتح الباري (13/265).
[17] صحيح البخاري, كِتَاب الْمَنَاقِبِ, بَاب فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, حديث رقم (3487).
[18] انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري (24/404).